فصل: 3 - تصريف البيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.قوة البلاغة في الأسلوب من كلمات متآلفة:

69 - يقول الخطابي في رسالته في إعجاز القرآن في بيان البلاغة القرآنية: اعلم أنَّ عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو بموضع كل منوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه سقوط البلاغة؛ ذلك أنَّ في الكلام ألفاظًا متقاربة في المعاني، يحسب أكثر الناس أنَّها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب كالعلم والمعرفة، والحمد والشكر، والبخل والشح، وكالنعت والصفة، وكقولك: اقعد واجلس، وبلى ونعم، والأمر في ترتيبها بخلاف ذلك؛ لأنَّ لكل لفظة خاصة تتميز بها عن صاحبتها.
وهكذا يسترسل في بيان التفرقة بين الألفاظ، ويضرب الأمثلة في القرآن، وفي اللغة في التفرقة بين الألفاظ التي يزعم أنها تدل على معنى واحد يؤديه كل واحد منها من غير افتراق في المؤدَّى مع أنَّ المؤدى مختلف متباين.
وإنه يذكر أن ألفاظ القرآن مختارة تدلّ على أدق معانيها، فمثلًا ذكر عن إخوة يوسف عليه السلام أنهم قالوا: أكله الذئب، ولم يقولوا: افترسه؛ لأنهم لو قالوا افترسه لطالبهم ببعض أثره، والأكل إفناء الجسم في جسم.
وإنَّ الخطابي ليقول في بحثه القيم: اعلم أن القرآن إنما صار معجزًا لأنه جاء بأفصح ألفاظٍ في أحسن نظوم التأليف، مضمِّنًا أصحَّ المعاني من توحيد له عزت قدرته، وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته، من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها، واضعًا كل شيء منها في موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ولا يرى في صورة العقل أمر أليق منه.
وإذا كانت ألفاظ القرآن ومعانيه لها ذلك المكان الأسمى الذي لا يمكن أن يناهد إلى سمائه إنسان أو جن، شرقي أو غربي، فإنَّ في القرآن مع جمال الألفاظ ورونق الأسلوب، خاصة لا يصل إليها أحد في الألفاظ والأسلوب والمعاني.
وقد قسَّم الخطابي الكلام البليغ إلى أجناس ثلاثة، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية، فمنها: البليغ الرصين الجزل، ومنها: الفصيح القريب السهل، ومنها: الجائز الطلق السلس، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود، دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجد في القرآن شيء منه ألبتة.
وإنَّ هذا الكلام لا يمكن أن يمر من غير أن نبدي عليه ملاحظة لاحظناها، أنه يفرض أنَّ الكلام البليغ يتفاوت بتفاوته في الجزالة والسلاسة والسهولة، وهذا يوهم أنَّ القرآن الكريم تتفاوت بلاغته، وهذا الزعم باطل، فالقرآن كله رتبة واحدة في البلاغة، في المنزلة التي لا يمكن أن يسمو إليها بليغ؛ لأن البلاغة أن يكون الكلام موافقًا لمقتضى الحال، فالعبارات الجزلة القوية تكون في موضع الإنذار، والعبارات السهلة غير المسترسلة تكون في التبشير، والعبارات المسترسلة في مواضع التنبيه إلى وجوب التفكير والتدبر، وكل بليغ في موضعه، ولا يختار سواه، فلا تكون عبارات الإنذار كعبارات التبشير، ولا تكون عبارات الدعوة إلى التأمل كعبارات التهديد والتخويف، هذه ملاحظة أبديناها على عبارة الخطابي، وكان حقًّا علينا أن نبديها، فلا نجعلها تمرُّ بغير تعليق.
وإنَّ الخطابي قد بيِّنَ أن القرآن الكريم قد اشتمل على الأجناس الثلاثة في عبارات قيمة حازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد كالمتضادين؛ لأن العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة في الكلام تعالجان نوعًا من الوعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبوغ كل واحدٍ منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن، يسَّرها الله بلطيف قدرته مع أمره؛ ليكون آية بينة ودلالة على صحَّة ما دعا إليه من أمور دينية، وإنما تعذَّر على البشر الإتيان بمثله لأسباب؛ منها: إنَّ علمهم بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها التي هي ظروف المعاني والحوامل لها غير كامل، ولا تدرك أفهامهم جميع وجوه النظم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلون باختبار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى قائم، ورباط لهما ناظم.
وإنَّا نوافق الخطابي في أنَّ قدرة البلغاء من الناس على الإتيان بمثل القرآن من أسبابه نقص علمهم باللغة، جزلها وسهلها، وعدم علمهم بالمعاني، وأنَّى يكون علمهم بجوار علم الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علمًا.
ونقول من ناحية ثانية: إن البلغاء من الناس يختلفون جزالة وسهولة واسترسالًا، تبعًا لطبائعهم وبيئاتهم، وما يتجهون إليه، فالفرزدق كان يميل إلى اختيار الألفاظ القوية أو الحوشية، ويقتحم بذلك الوعر من القول، وقالوا: إنه كان يحاول أن ينهج نهج البدويين من الجاهلين، وجرير يتخيِّر السهل العذب من الألفاظ، وكذلك كان الأمر في شعراء الجاهلية؛ فامرؤ القيس كان يتخيِّر الوعر الجزل من الألفاظ، وهو يقيم في الصحراء العربية، ولانت ألفاظه لمَّا كرثته الكوارث، ورحل إلى أنقرة، وهكذا... فكان من البلغاء من البشر من غلبت عليهم عذوبة الألفاظ، ومنهم من غلبت عليهم جزالتها وقوتها، بل وعورتها، ويختلف الرجل الواحد باختلاف حاله، وتغير البيئات عليه.
هذا في بلاغة البشر، أمَّا القرآن فبلاغته من عند الله خالق كل شيء، القادر على كل شيء، والخالق للناس وبيئاتهم، فكان في كلامه المبين، كل أجناس القول ومناهج البيان بلا تفاوت في البلاغة القرآنية، وإن اختلفت ألوان الألفاظ وأجناسها بين جزل قوي وعذب سهل، وكلام مرسل ينساب في النفس أنسياب النمير، وكل من موضعه.

.التلاؤم:

70 - يقصد بالتلاؤم في الأسلوب أن تأتلف مخارج الحروف والكلمات كما ذكرنا، والانسجام في النّغَم بينها، ويعدُّ القاضي عبد الجبار أنَّ تآخي النغم في الألفاظ والحروف من حلاوة الكلام ومحسناته، ولكنا نقول: إنَّها بالنسبة للقرآن الكريم من تأثيره في النفوس، فهو في القرآن طريق الوصول إلى القلوب، وإنَّ نظمه على ما سنبيِّن يسير هو وأسلوبه بألفاظه ومعانيه إلى القلوب ليأخذها من طبعها الأرضي ليعلوَ بها إلى الأفق السماوي.
ويذكر أبو عيسى الرماني فائدة التلاؤم فيقول: والفائدة في التلاؤم حسن الكلام في السمع، وسهولته في اللفظ، وتقبل النفس لمعناه، لما يرد عليها من حسن الصورة, وطريق الدلالة، ومثل ذلك مثل قراءة الكتاب في أحسن ما يكون الخط والحرف، وقراءته في أقبح ما يكون من الحرف والخط، فذلك متفاوت في الصورة وإن كانت المعاني واحدة.
وإنَّ الكلام يذاق كما يذاق الطعام، فكلما كان التنسيق والتلاؤم حسن في الذوق.
وإن لغتنا العربية لغة نطق ابتداء، وصارت من بعد لغة كتابة، ولم تنفصل عنها خاصتها، فهي نطق وكتابة، ولذلك كان لمخارج الحروف أثر في فصاحة الكلام، ولا شكَّ أن مخارج الحروف مختلفة منها ما يكون في أقصى الحلق، ومنها ما هو من أدنى الفم، ومنها ما هو في الوسط بينهما، فالتلاؤم فيها بأن تكون الكلمة حروفها متقاربة المخارج، والكلمات متقاربة المخارج ليسهل النطق على اللسان، وتتقبله الأسماع.
فإذا أضيف إلى ذلك التآخي في المعاني كان التلاؤم الكامل، والأسلوب الرابع، وذلك ما جاء في القرآن.

.3 - تصريف البيان:

71 - تختلف مناهج البلغاء كُتَّابًا وشعراءً، كل يجيد منهاجًا معينًا ويمتاز فيه، ويكون من الأوساط في غيره أثر دون الأوساط، فمنهم من يجيد الوصف، ويحكي الأشياء لقارئه كأنه يراها، ومنهم من يجيد القول الوعر العنيف، ولا يكون منه السهل الميسّر، ومنهم من يجيد شعر الغزل ولا يجيد غيره، ومنهم من يجيد القول الساخر، ولا يجيد القول الجاد، كما نرى في بعض كتاب العصر، ومنهم من يجيد الكتابة في السياسة، فإذا كتب في غيرها هان وابتذل، ومنهم من يجيد الكتابة في التحليل وإثارة التأمل، وهكذا، وقلَّ من يجيد الدخول إلى الكلام البليغ في أكثر من باب أو بابين، ويكونان متآخيين غير متناقضين.
أما القرآن المعجز الذي هو فوق قدرة البشر، فإنَّ البلاغة فيه في كل أبواب القول، وهي في كل باب تعلو علوًّا كبيرًا عن المجيدين في هذا الباب وحده، ولذلك كان تصريف القول فيه من تهديد وإنذار وتبشير، وإثارة للتأمل، ودعوة للتفكير في آيات الله تعالى الكونية والقرآنية، والتفكير في النفس وفي الحس، كل ذلك من دلائل الإعجاز وسره.
ولقد قال سبحانه في ذلك: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء: 41]، أي: إنَّ التصرف لزيادة التنبيه، وكلما زاد تنبيههم بالحق وإرشادهم ازدادوا نفورًا، فزادوا كفرًا، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 98]، أي: إنَّ الله تعالى صَرَف في القرآن يضرب الأمثال وبيان الأحوال رجاء أن يؤمنوا، ولكن سبق الكفر إليهم جعلهم يأبون الإيمان بالله والخضوع له، فزادوا نفورًا عن الحقائق، كما ينفر المريض السقيم عن الدواء الناجع، والغذاء الصالح، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 45]، ذكر الله تعالى أنَّه يصرِّف القرآن بذكر الأمثال والأحوال، ولكن الذين سبق الضلال إليهم يجادلون، والجدل في الحق الواضح المبين يطمس الحقائق ويطفئ النور، ويختفي نور الحق وسط الأقوال المتضاربة والأهواء المتنازعة.
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113].
وقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 46].
وقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65].
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 105]، أي: نصرِّف الآيات ليفقهوه ويدركوا الحق إنْ كانوا غير ضالين، ولم يطمس على قلوبهم، وليقولوا درست وتعلّمت، ويكذبوا أن طمس على قلوبهم ولم يؤمنوا بالحق، كما قالوا يعلمه غيره، ورد تعالى عليهم بقوله:
{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58].
72 - وبهذه النصوص الكريمة تبيَّنَ أنَّ القرآن كان يصرف الآيات، بمعنى أنه يتضمَّن الأمر بالتوحيد والتكليفات الشرعية التي بها صلاح المجتمع وتكوين مدينة فاضلة تحترم فيها حقوق الإنسان احترامًا كاملًا، بأوجه مختلفة من البيان، من تهديد وإنذار، إلى تبشير وتوبيخ واستنكار، ودعوة إلى التأمل في خلق الله تعالى، وفي القول ومناهج التأثير، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وإنَّ التصريف في القرآن الكريم على ضربين: أحدهما في المعاني، وثانيهما: في الألفاظ والأساليب، فأمَّا التصريف في المعاني فإن المؤدَّى في جملته يكون واحدًا في عدة مواضع، ولكن لها في كل مرة عبرة, وهذا تصريف في المعاني وإن كانت الألفاظ تختلف أو تتقارب أو تتحد العبارات في بعض الأحيان، ولقد قال في تصريف المعاني الرماني في رسالته إعجاز القرآن: وهذا الضرب من التصرف فيه بيان عجيب يظهر فيه المعنى بما يكتنفه من المعاني التي تظهره وتدل عليه، وتصريف المعنى في الدلالات المختلفة قد جاء في القرآن في غير قصة، منها: قصة موسى عليه السلام في سورة الأعراف، وفي طه والشعراء؛ لوجوه من الحكمة، منها: التصرف في البلاغة من غير نقصان، ومنها: تمكين العبرة والموعظة.
73 - وأول تصريف في مناحي القول في القرآن يكون في السور، فمنها: الطوال التي يجد فيها القارئ أبواب العلم الإسلامي المختلفة من بيان الوحدانية، وبطلان الوثنية، وتوجيه الأنصار إلى الكون، وما فيه من دلالة على قدرة الله، والأرض وما حوت من كنوز وزروع وثمار، من اتصال الأرض بالسماء بالمطر الذي يكون غيثًا يحيي الأرض، وينبت الزرع، ويسقي كل حيّ، ومن شرائع فيها المصلحة الإنسانية وكرامة الإنسان، وتكريمه بالعقل.
وفيها القصار التي يسهل على القارئ حفظها، وأن يعيها صدره لما فيها من جمل قصار يسهل وعيها والاعتبار بهان وذكرها في صلواته، وفيها بيان الوحدانية وذكر اليوم الأخر، وفي بعضها تجد أحكامًا شرعية مثل قوله تعالى في سورة الكوثر: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}، ففيها ذكر لليوم الآخر ومقام النبي صلى الله عليه وسلم، ومقام الشانئين الذين عادوه وعادوا الحق معه، وحكم الأضحية.
واقرأ قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، ففي هذه السورة القصيرة جماع الخصال الإنسانية التي تصلح الآحاد والجماعات، وهي الإيمان الذي يعمر القلوب ويوجه الجوارح، فلا صلاح لإنسان أو جماعة إلَّا إذا صلحت القلوب، وأثمر الإيمان العمل الصالح في الآحاد، وكانت الجماعة كلها للحق تتواصى عليه وتتعاون، فما صلح قوم ضاع الحق بينهم، وتخاذلوا في نصرته، وإن السبيل إلى احتمال أعباء الحق هو الصبر، فإنَّ الصبر فيه ضبط النفس، والابتعاد عن الشهوات، وجعلها خاضعة للعقل، بحيث تكون أمة ذلولًا لا سيدًا مطاعًا، وما تخاذل قوم عن نصرة الحق إلَّا لأنَّ الشهوات قد استولت على نفوسهم، وصار السائد على الجماعة الهوى المطاع، والشح المتَّبَع، ولذلك نصَّ الله سبحانه وتعالى - على أنَّ الجماعة الفاضلة هي التي تتواصى على الحق، فلا يذل صاحب حق ولا يعلو أهل الباطل، وتتواصى على الصبر، وضبط النفس، وقدعها عن أهوائها وشهواتها.
وفي القرآن السور المتوسطة التي ليست بالطوال ولا القصار، ومنها ما يقرب من الطوال، ومنها ما هو قريب من القصار، وهي مشتملة على جل مقاصد الشريعة الإسلامية في عبارة موجزة مثيرة، ولكن بوضوح، ومبينة ولكن بإيجاز.
وكأن الله سبحانه وتعالى - بذلك التصريف في السور بين الطويل والمتوسط والقصير، وكلها في أعلى درجات البلاغة، يقدِّم مائدته الكبرى وهي القرآن للناس أجمعين، ذوى العلم الذين يتَّسع علمهم للإحاطة بالسور الطوال وما فيها من علم بالشريعة، وما فيها من علم الكون الذي لا يحيط به من دونهم، وهم أوتوا مدارك تسمو إليها، وتستخرج من كنوزها جواهر.
وأعطى الذين يشغلهم أسباب الرزق عن الإحاطة قصار السور، وفيها غناء لا قصور فيه، بل إنه كمال في كمال.
وبين هؤلاء وأولئك الذين يطلبون السور المتوسطة طولًا، وهم الشادون في العلم الذين لهم من وقتهم ما يمكنهم أكثر ممن كانت لهم قصار السور.
وقد يقول قائل: هل تقسيم القرآن إلى سور قصار وما بينها تنزيل من الله تعالى؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إنَّ ترتيب السور بوحيٍ من الله تعالى وقد بيَّنَّا ذلك فيما أسلفنا من قول في جمع القرآن.